https://follow.it/amir-samdani?action=followPub

Friday 19 November 2021

هل النكول عن اليمين بينة

 اليمين هي الحلف بالله تعالى دون غيره ، يقسم الحالف بالله تعالى أو بأي اسم من أسمائه كالرحيم أو الحكيم أو العظيم .. أو بصفة من صفات ذاته كالحكمة أو العلم أو الرحمة …أنه فعل كذا أو لم يفعل كذا ، أو أنه ليس مدينا لفلان أو ……. .

وقد روى الإمام مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المُدَّعَي عليه”، وروى البيهقي والطبراني بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “البينة على من ادَّعى واليمين على مَن أنكر”.

فليس كل من يدعي على غيره أمرا يصدق في دعواه ، ولكن على المسلم أن يأتي بالدليل على ما يدعيه ، فلا بد من الدليل .

وإن لم يوجد دليل فله أن يطلب اليمين ، أي أن يحلف الآخر بالله تعالى أنه لم يعمل ما قاله من ادعى عليه. فإن حلف فلا سبيل له عليه .

أما إذا رفض أن يحلف فقد اختلف الفقهاء في كون النكول (الامتناع ) عن اليمين من المدعى عليه دليلا يحكم به عليه بما يدعيه غيره :
فقال الجمهور : لا يكون النكول دليلا ، ولكن يطلب القاضي من المدعي الحلف ، فإن حلف قضى له ، لأن امتناع المدعى عليه بمنزلة الشاهد ، وهم يجيزون الحكم بالشاهد مع اليمين .
وقال الحنفية : يحكم القاضي للمدعي إذا امتنع المدعى عليه عن اليمين.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
النكول لغة : الامتناع . يقال نكل عن اليمين أي امتنع عنها . وهو كذلك في الاصطلاح إذا كان في مجلس القضاء
والنكول عند المالكية والشافعية وفي أحد رأيين عند الحنابلة لا يكون حجة يقضى بها على المدعى عليه . بل إذا نكل في دعوى المال أو ما يئول إليه ردت اليمين على المدعي بطلب المدعى عليه , فإن حلف المدعي قضي له بما طلب وإن نكل المدعي رفضت دعواه . فقد أقاموا نكول المدعى عليه مقام الشاهد , إذ عندهم أنه يقضى للمدعي بحقه إذا أقام شاهدا وحلف , فكذلك يقضى له بنكول المدعى عليه وحلف المدعي . فالحق عندهم لا يثبت بسبب واحد , كما لا يثبت بشاهد واحد . فإن حلف استحق به وإلا فلا شيء له .
ومذهب الحنفية , وأحد قولين للإمام أحمد , أنه إذا كانت للمدعي بينة صحيحة قضي له بها . فإن لم تكن له بينة أصلا , أو كانت له بينة غير حاضرة , طلب يمين المدعى عليه , فإن حلف بعد عرض القاضي اليمين عليه رفضت دعوى المدعي , وإن نكل عن اليمين الموجهة إليه صراحة , كأن قال : لا أحلف , أو حكما كأن سكت بغير عذر ومن غير آفة ( كخرس وطرش ) يعتبر سكوته نكولا ويقضي عليه القاضي بنكوله إن كان المدعى مالا , أو المقصود منه المال , قضي عليه بنكوله , لكونه باذلا أو مقرا , إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين ليدفع الضرر عن نفسه . ولا وجه لرد اليمين على المدعي لقوله صلى الله عليه وسلم { ولكن اليمين على جانب المدعى عليه } وقوله { البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه}.

وإذا قال : لا أقر ولا أنكر لا يستحلف بل يحبس حتى يقر أو ينكر , وكذا لو لزم السكوت عند أبي يوسف . صاحب أبي حنيفة.
وقال المالكية : إذا سكت المدعى عليه أو قال : لا أخاصمه قال له القاضي : إما خاصمت وإما حلّفت هذا المدعي على دعواه وحكمت له . فإن تكلم وإلا يحكم عليه بنكوله بعد يمين المدعي . وقال محمد بن عبد الحكم , وهي رواية أشهب وجرى بها العمل : إن قال : لا أقر ولا أنكر لم يتركه حتى يقر أو ينكر . . فإن تمادى في امتناعه حكم عليه بغير يمين .
وذهب الشافعية إلى أنه إذا أصر المدعى عليه على السكوت عن جواب المدعي لغير دهشة أو غباوة جعل حكمه كمنكر للمدعى به ناكل عن اليمين , وحينئذ فترد اليمين على المدعي بعد أن يقول له القاضي : أجب عن دعواه وإلا جعلتك ناكلا , فإن كان سكوته لدهشة أو جهالة أو غباوة شرح له ثم حكم ; بعد ذلك عليه . وسكوت الأخرس عن الإشارة المفهمة للجواب كسكوت الناطق .

وعند الحنابلة في اعتبار سكوت المدعى عليه نكولا روايتان : الأولى : يحبسه الحاكم حتى يجيب , ولا يجعله بذلك ناكلا . والثانية : يقول له القاضي : احلف وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك .

أحكام زوجة الغائب والمفقود

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

لا يجوز الحكم بوفاة أي شخص ثبتت حياته إلا إذا قامت البينة على ذلك، لكن "المفقود" له أحكام تخصه في الشريعة، وهذا تفصيلها:
أولاً: المفقود هو الشخص الذي غاب عن أهله وانقطعت أخباره، فلا يُدرى أحي هو أم ميت، ويشمل ذلك:

  1. - من خرج من بيته أو سافر، وانقطعت أخباره تمامًا.
  2. - الأسير الذي لا يعلم موضعه، ولا يمكن الاطلاع على أخباره.
  3. - من فُقد خلال الحروب فلا يعلم حاله: أحيُّ هو أم ميت.

قال الإمام النووي –رحمه الله- في "روضة الطالبين": "فَالْمَفْقُودُ: الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَجُهِلَ حَالُهُ فِي سَفَرٍ، أَوْ حَضَرٍ، فِي قِتَالٍ، أَوْ عِنْدَ انْكِسَارِ سَفِينَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا... وَفِي مَعْنَاهُ: الْأَسِيرُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ".


ثانياً: الأصل في المفقود: الحياة، وانقطاع أخباره وإن كان يوجب شكًا في حياته، إلا أن هذا الشك لا يزيل اليقين، وهو حياته التي تيقنَّاها من قبل، والقاعدة الفقهية المقررة عند العلماء: "اليقين لا يزول بالشك".
ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا ببيِّنة واضحة، كخبر الثقات القائم على المشاهدة، سواء من رفقاء السجن، أو زملاء المعركة، ولا يُكتفى في هذا الباب بالظنون المجردة أو الأخبار المتناقلة.
وبناء عليه: فلا يجوز لورثة المفقود قسمة ماله، ولا لزوجته أن تتزوج إلا بعد أن يثبت موته ببينة شرعية، أو يصدر حكم من القاضي الشرعي بذلك.


ثالثاً: إن لم تحصل البينةُ على وفاة الزوج أو لم يصدر حكمٌ من القاضي بموته وتعجَّلت المرأة الزواج، فهذا النكاح باطل، ويجب عليها أن تنفصل عن زوجها الثاني فورًا.
قال ابن قدامة: فأما الأنكحة الباطلة, كنكاح المرأة المزوَّجة أو المعتدة, أو شبهه, فإذا علما الحلَّ والتحريم, فهما زانيان, وعليهما الحد, ولا يلحق النسب فيه".
وقال أيضاً: "وإن كانا جاهلين بالعدة، أو بالتحريم، ثبت النسب، وانتفى الحد، ووجب المهر".


رابعاً: إذا طالت غيبة المفقود دون أن يعود إلى أهله، فلهم أن يرفعوا أمرهم للقاضي الشرعي الذي يُحدد مدةً للانتظار، فإن لم يرجع خلالها حكم القاضي بوفاته.

ونظراً لخلو المسألة من نص شرعي صحيح، فقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه المدة.

وأقرب الأقوال في المسألة: أنَّه يُرجع في ذلك للقاضي الشرعي في كلِّ بلدةٍ بحيث ينظر في كل قضية، ويحدِّد مدةً للتربص والانتظار يغلب على الظن موته بعدها، بحسب الظروف المحيطة بكل حادثة، والقرائن الملابسة لها؛ لأنَّ حال المفقود يختلف من مكان لآخر، وظروف الفقد تختلف من حالة لأخرى، فلكل واقعة أحوالها وظروفها التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
قال الزيلعي –رحمه الله- في "تبيين الحقائق" مبيناً المدة التي يُحكم بعدها بوفاة المفقود: "وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ [أي القاضي]؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَكَذَا غَلَبَةُ الظَّنِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ".
وقال الماوردي –رحمه الله- في "الحاوي": "وَأَمَّا الْمَفْقُودُ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهَا، فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِمَوْتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّرَ ذلك بزمان محصور، وهذا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أبي حنيفة وَمَالِكٍ".
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية والعشرين المنعقدة بمكة المكرمة لعام (1434ه): "ويُترك تحديد المدة التي تنتظر للمفقود للقاضي، بحيث لا تقل عن سنة ولا تزيد على أربع سنوات من تاريخ فقده؛ ويستعين في ذلك بالوسائل المعاصرة في البحث والاتصال, ويراعي ظروف كل حالة وملابساتها, ويحكم بما يغلب على ظنه فيها". انتهى.
وإذا مضت المدة التي حددها القاضي للانتظار ولم يعثر له على أثر بعد بذل الوسع في البحث بمختلف الطرق، فإن القاضي يحكم حينئذ بوفاته، وتعتد بعدها امرأته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، ويحل لها أن تتزوج، ولورثته اقتسام ماله.
ولا تترتب هذه الآثار إلا بعد حكم القاضي بوفاته.


خامسًا: من فُقد ولم يُعلم حاله، ثم تبينت وفاته بخبر مؤكد، فإنَّ عدة زوجته تكون من يوم وفاته، لا من يوم علمها بها.
وعليه، فإن لم تتأكد من خبر وفاته إلا بعد الأربعة أشهر وعشرة أيام: فلا عدة عليها.
قال ابن عبد البر –رحمه الله-  في "التمهيد": "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ تُحْسَبُ عِدَّتُهَا مِنْ سَاعَةِ طَلَاقِهَا أَوْ وَفَاةِ زَوْجِهَا".


سادسًا: من فُقد ولم يُحكَم بموته، أو عُلمت حياته ولكنه غاب عن زوجته فترةً طويلة لسفر أو سجن، بحيث ترتب على الزوجة أو أبنائها ضرر من هذا الغياب، إما لعدم تركه ما يكفيهم من النفقة، أو لخشيتها على نفسها من الفتنة، أو حاجتها لمن يقوم على شؤون الأسرة وتربية الأبناء، أو غير ذلك من وجوه الضرر.
فمن حقها -إن شاءت- المطالبة بفسخ النكاح لرفع الضرر، سواء كانت غيبته لعذر أم لا.
ففي ترك الزوجة أو العائلة ضرر معنوي ومادي ظاهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)، ومن القواعد الفقهية المقرَّرة: "الضرر يزال".
وإزالة هذا الضرر لا تتم إلا بعودة الزوج أو التفريق بينهما.
جاء في "الموسوعة الفقهية" :"ذهب المالكية إلى جواز التفريق على المحبوس إذا طلبت زوجته ذلك وادعت الضرر، وذلك بعد سنة من حبسه، لأن الحبس غياب، وهم يقولون بالتفريق للغيبة مع عدم العذر، كما يقولون بها مع العذر على سواء" انتهى.
وقال ابن تيمية –رحمه الله-  في "الفتاوى الكبرى": "وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلزَّوْجَةِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ مُقْتَضٍ لِلْفَسْخِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَصْدٍ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِ، كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى...، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ فِي امْرَأَةِ الْأَسِيرِ وَالْمَحْبُوسِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ تَعَذَّرَ انْتِفَاعُ امْرَأَتِهِ بِهِ إذَا طَلَبَتْ فُرْقَتَهُ كَالْقَوْلِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ ".
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلاميبرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية والعشرين المنعقدة بمكة المكرمة لعام (1434ه): "للزوجة إذا تضررت من مدة انتظار زوجها المفقود أن ترفع أمرها للقاضي, للتفريق بينها وبين زوجها المفقود للضرر، وفق الشروط الشرعية لهذا النوع من التفريق".
وفي حال فسخ نكاح المرأة من زوجها المفقود أو الغائب قبل الدخول فعلى المرأة أن تردَّ المهر لذويه كاملاً، بخلاف ما لو كان الفسخ بعد الدخول فهو من حق المرأة .
قال ابن قدامة –رحمه الله- في "المغني" عن الفسخ: "أَنَّ الْفَسْخَ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ، فَلَا يَسْقُطُ... وَيَجِبُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى".


سابعًا: إن ظهر المفقود حياً بعد أن حكم القاضي الشرعي بوفاته،  وقد تزوجت امرأته دون فسخ النكاح الأول، فإنه يكون أحق بها من زوجها الثاني، وفي هذه الحال يفسخ النكاح الثاني وتعتد المرأة منه (بحيضة واحدة) ثم ترجع لزوجها الأول.
وإن رغب عنها وأقر هذا الزواج الثاني، فله ذلك، ومن حقه استرداد المهر الذي دفعه لها من زوجها الثاني.
وأي الخيارين اختار، فليس له الرجوع عنه.
روى ابن أبي شيبة في المصنف عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ –رضي الله عنهما- قَالاَ: "إِنْ جَاءَ زَوْجُهَا خُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الصَّدَاقِ الأَوَّلِ".
وقال ابن قدامة في "المغني": "وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا، خُيِّرَ الْأَوَّلُ بَيْنَ أَخْذِهَا، فَتَكُونُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ أَخْذِ صَدَاقِهَا، وَتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي...؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ".
قال الخطيب الشربيني -رحمه الله- في "مغني المحتاج": " لكن لا يطؤها حتى تعتد من الثاني".
وتفادياً لحدوث مشاكل من قضايا الغيبة والمفقود، فالأولى للمرأة التي طال غياب زوجها وانقطعت أخباره وتضررت بذلك: أن ترفع أمرها للقاضي ليحكم بفسخ النكاح ثم تعتد وتتزوج.
فإنَّ فسخ النكاح يختلف عن الحكم بوفاة الزوج، وبالتالي فلا أثر لعودة زوجها الأول على نكاحها الثاني؛ لأن النكاح الأول مفسوخ بحكم القاضي الشرعي.


ثامنًا: فيما يتعلق بأموال المفقود العائد:إن لم يصدر حكم من القاضي بموته وقسَّم الورثة ماله ثم ظهرت حياته: فإنها تعاد إليه، ومن أنفق شيئاً منها ضمنه له؛ لأنه تصرَّف بملك غيره دون وجه حق، ولا يستثنى من ذلك إلا النفقات الشرعية الواجبة في ماله.
أما إن عاد المفقود بعد حكم القاضي بوفاته، فإنه يسترد الأموال المتبقية بيد ورثته فقط، وأما الأموال التي أنفقت، فلا ضمان فيها؛ لأنها أُنفقت بناء على حكم قضائي، وبمقتضاه صار مأذوناً لهم بهذا التصرف، وما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون.

Thursday 18 November 2021

قضاء القاضي بعلمه الشخصي

 قضاء القاضي بعلمه الشخصي




بقلم د. هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن

hanisibu@hotmail.com


تقدمة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين. وبعد:

هذا بحث شرعي مفصل ومبسط نقدمه لطلبة العلم وللمشتغلين بالقضاء الشرعي وأيضاً للدارسين للفقه المقارن. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم.

ولمحاولة فهم هذه القضية (قضاء القاضي بعلمه الشخصي) نسوقها في الصورة التالية:

إذا توافرت لدى القاضي معلومات شخصية في الدعوى، كان قد شهد وقوع حادثة من الحوادث ثم رفعت إليه للنظر فيها، فهل يجوز له الحكم اعتماداً على هذه المعلومات التي حصل عليها خارج الجلسة وفي غير نطاق المرافعات والمناقشات التي جرت فيها؟

في هذا الصدد توجد بوجه عام مدرستان في الفقه الإسلامي: الأولى تنادي بعدم جواز أن يحكم القاضي بعلمه أصلاً سواء في حقوق الله أو حقوق العباد. والثانية ترى جواز ذلك وفي داخل المدرسة الثانية يوجد ثلاث اتجاهات: الأول: يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً للعبد أو حقاً مشتركاً بينهما، علم ذلك في زمان ولايته أو قبله في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره. الثاني: فيرى أن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود التي هي حق خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواء على هذا زمن الولاية أو قبلها في مصرها أو في غير مصرها. أما الاتجاه الثالث: فيقصر حكم القاضي على ما علمه في زمان الولاية في مصرها.



المدرسة الأولى: عدم جواز أن يحكم القاضي بعلمه الشخصي:



يرى أنصار هذه المدرسة أنه ليس للقاضي أن يحكم بعلمه في أي حق من الحقوق، تستوي في ذلك حقوق الله وحقوق الآدميين. وإلى هذا ذهب مالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه. 

قال في تبصرة الحكام: "فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه في ذلك. وقال عبد المالك: يحكم وعليه قضاة المدينة، ولا أعلم أن مالكاً قال غيره. وبه قال مطرف وسحنون وأصبغ، والأول هو المشهور" يقصد ابن فرحون الأشهر هو قول مالك وابن القسم القائل بألا يحكم القاضي بعلمه. لذلك قال تعليقاً على رأي عبد الملك وسحنون: "قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن في مسائله: قول ابن القاسم أصح لفساد الزمان، ولو أدرك عبد الملك وسحنون زماننا لرجعا عما قالاه، لو أخذ بقولهم لذهبت أموال الناس وحكم عليهم بما لم يقروا به" 

جاء في المعيار المعرب " وسئل أبو بكر بن مغيث عن قول مالك: لا يقضي القاضي بعلمه. فأجاب: إنما رأى ذلك مالك لأنه لا يجوز إنفاذ حكم إلا بعد الإعذار، والقاضي إذا قضى بعلمه لا يجوز له أن يقول إنني علمت هذا الحق قبله فأعذرت إليه في نفسي فلم يأت فيه بمدفع فيكون ذلك خلافاً لنص الكتاب قال الله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فهذا وجه من الإعذار" 

وفي المذهب الحنبلي: قال الخرقي: (ولا يحكم الحاكم بعلمه) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي" 

ودليلهم في ذلك:

(أ) قوله تعالى:

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) 

وجه الدلالة: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بجلدهم إذا لم يأتوا ببينة، وإن علم القاضي صدقهم. 

(ب) وما أخرجه مسلم عن ابن عباس في قصة الملاعنة:

قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا » 

وجه الدلالة: ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم وقوع الزنا من هذه المرأة ولم يرجمها لعدم البينة على زناها، فدل هذا على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.

(ج) وحديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا » 

وجه الدلالة: في هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم إنه إنما يبني حكمه على ما سمعه من حجج الخصمين لا على مجرد علمه الشخصي.

(د) حديث الأشعث بن قيس الكندي:

"َانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى شَىْءٍ ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " 

وجه الدلالة في هذا الحديث أنه قد أفاد أن الإثبات لا يكون إلا بالشاهدين أو اليمين، ودل هذا على أن علم القاضي لا يجوز القضاء به لأنه ليس واحداً منهما (الشهادة أو اليمين).

(هـ) حديث عيسى بن مريم عليه السلام:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِى » 

وجه الدلالة: ففي هذا الحديث لم يعمل عيسى عليه السلام بعلمه الشخصي وقبل يمين السارق مع أنه كاذب يقيناً. فلو كان القضاء بالعلم الشخصي مشروعاً لأقام عليه حد السرقة.

(و) قصة أبي جهم بن حذافة:

عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاَجَّهُ رَجُلٌ فِى صَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوُا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَرَضُوا. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّ هَؤُلاَءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِى يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا لاَ. فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ فَكَفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ فَقَالَ « أَرَضِيتُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. قَالَ « إِنِّى خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ». قَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا نَعَمْ." 

وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه مع أنه عرضه عليهم أول الأمر، فلو كان القضاء بمجرد العلم جائزاً لما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إنكارهم ولحكم عليهم بمقتضى علمه الشخصي.

(ز) وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه:

عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُ أَنَا وَلَمْ أَدْعُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِى غَيْرِى" 

وجه الدلالة: أن هذا نص صريح في أن أبا بكر لا يرى جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.

(ح) "عَنْ عِكْرِمَةَ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً قَتَلَ أَوْ سَرَقَ أَوْ زَنَى. قَالَ : أَرَى شَهَادَتَكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ : أَصَبْتَ" 

وجه الدلالة أن هذا نص صريح عن عمر أنه لا يجوز له أن يقضي بعلمه الشخصي.

يقول ابن القيم في التعليق على الخبرين السابقين: "وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وحكمه. فإن التهمة مؤثرة في باب الشهادات والأقضية، وطلاق المريض وغير ذلك/ فلا تقبل شهادة السيد لعبده، ولا العبد لسيده، ولا شهادة الوالد لوده، وبالعكس، ولا شهادة العدو على عدوه. ولا يقبل حكم الحاكم لنفسه. ولا ينفذ حكمه على عدوه. ولا يصح إقرار المريض مرض الموت لوارثه ولا الأجنبي، عند مالك إذا قامت شواهد التهمة. ولا تمنع المرأة الميراث بطلاقه لها لأجل التهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها ـ إلى أضعاف ذلك مما يرد ولا يقبل للتهمة" 

(ط) وأخيراً يستند أنصار هذه المدرسة إلى القول أن قضاء القاضي بعلمه يكون كما في الدعوى بدون بينة ولا يمين. فوجب ألا يصح لأن الشرع الحكيم قد الحكم بأحدهما، ولأن تجويز قضاء القاضي بعلمه الشخصي يفضي إلى الحكم بما اشتهي، ويحيله إلى علمه! فهذا وإن كان لا يصدر إلا عمن ضعف إيمانه، ولم يراقب الله فيما يقوم به، إلا أن التفرقة بين من يتصور صدور ذلك منه، ومن لا يتصور؛ أمر يتعذر لأن العلم بخفايا النفوس خاص بالله وحده، فوجب القضاء بعدم اعتبار العلم الشخصي للقاضي سداً للذريعة.



المدرسة الثانية: يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه:



هذه المدرسة تضم ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً لله أو حقاً خالصاً للعباد أو حقاً مشتركاً بينهما، علم ذلك زمان ولايته أو قبله في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره.

والاتجاه الثاني: يرى أن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود التي هي حق خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواء علم هذا زمان الولاية أو قبلها في مصرها أو غيرها.

الاتجاه الثالث: يقضي القاضي بعلمه الشخصي على ما علمه في زمان الولاية في مصرها وذلك فيما عدا الحقوق الخالصة لله تعالى فهذه لا يجوز له أن يقضي فيها بعلمه.



نشرع الآن في تفصيل هذه الاتجاهات على النحو التالي:



الاتجاه الأول:

(جواز قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق)

يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً لله تعالى كالحدود أو حقاً خالصاً للعبد كالأموال أو حقاً مشتركاً كالقصاص وحد القذف، علم بذلك في زمان ولايته أو قبله، في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره، وهذا هو اتجاه الشافعي في المشهور عنه، وبعض المالكية، وأحمد في رواية عنه، وأهل الظاهر والشيعة الإمامية في الصحيح من مذهبهم.

وفي فقه الإمامية؛ قال الحلي: "الإمام عليه السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس" 

أما إذا كان الحق خالصاً لله تعالى كالحدود فإن هناك روايتين لغير الإمام من القضاة كما قال في شرائع الإسلام: "وفي حقوق الله سبحانه، على قولين أصحهما القضاء. ويجوز له أن يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم"

قال ابن قدامة في تعليقه على مسألة الخرقي (لا يحكم الحاكم بعلمه) أن هناك رواية أخرى عن أحمد أي يجوز للحاكم أن يقضي بعلمه: "وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي ثور" 

يقول ابن حزم: "وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود وسواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته وأقوى ما حكم بعلمه لأنه يقين الحق ثم بالإقرار ثم بالبينة" 

أدلة القائلين بهذا الرأي:

(1) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) 

وجه الدلالة في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين عامة بالقوامة وبالقسط ، والحاكم من جملتهم، وليس من القسط أن يعلم الحاكم أن أحد الخصمين مظلوم والآخر ظالم ويترك كلاً منهم على حاله. فمن واجب الإنسان أن يقيم العدل حسب مقدرته، وليس من العدل في شئ أن يعلم القاضي بحق على شخص لله تعالى أو لإنسان ثم لا يستوفي منه هذا الحق. 

يقول صاحب المحلى: " وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره، وأن يكون الفاسق يعلن الكفر بحضرة الحاكم والإقرار بالظلم والطلاق ثم يكون الحاكم يقره مع المرأة ويحكم لها بالزوجية والميراث فيظلم أهل الميراث حقهم" 

(2) كما احتجوا بـ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 

وجه الدلالة من هاتين الآيتين أنهما أو جبتا على من علم أن شخصاً ارتكب الأسباب الموجبة للزنا والسرقة أن يقيم الحد عليه إذا كان ممن يملك إقامتها، والقاضي بحكم مركزه له ولاية إقامة الحدود فكان مأموراً بذلك، وإذا كان له أن يقضي بعلمه في الحدود كما يفهم من هاتين الآيتين، فله أن يقضي بعلمه في الحقوق الخالصة للعباد أو المشتركة كالأموال والقصاص.

(3) يستندون إلى حديث أبي سعيد الخدري:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » 

وجه الدلالة من هذا الحديث أن فيه أمراً لك مسلم بتغيير كل منكر يقدر على تغييره، والقاضي يدخل في عموم هذا الحديث دخولاً أولياً، ومن المنكر الذي لا أشد منه أن يترك من رآه يرتكب ما حرم الله بحجة أنه لم تقم عليه عنده بينة، مع أنه قادر على تغيير ذلك، فعدم تجويز القضاء بالعلم إهدار لهذا الحديث الشريف.

قال ابن حزم: "والحاكم إن لم يغير ما رأى من المنكر حتى تأتي البينة على ذلك فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم" 

فصح أن فرضا عليه أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطي كل ذي حق حقه وإلا فهو ظالم

(4) ما أخرجه الحاكم من حديث عطاء بن السائب عن ابن أبي يحيى بن الأرج عن أبي هريرة قال: "جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فقال للآخر: احلف، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو عندك، ادفع إليه حقه، ثم قال شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك" 

وجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين، فالأولى جواز القضاء بالعلم بعد وقوعه.

(5) "عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِى عَلَى أَرْضٍ لِى كَانَتْ لأَبِى. فَقَالَ الْكِنْدِىُّ هِىَ أَرْضِى فِى يَدِى أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِىِّ « أَلَكَ بَيِّنَةٌ ». قَالَ لاَ. قَالَ « فَلَكَ يَمِينُهُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِى عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَىْءٍ. فَقَالَ « لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ » فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَدْبَرَ « أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ " 

وجه الدلالة من هذا الحديث أن لفظ بينة شامل لكل ما يبين الحق ويظهره وعلم القاضي يحقق هذا الغرض فكان داخلاً في مسمى البينة المنصوص عليها في هذا الحديث.

(6) حديث سعد بن الأطول: عَنْ أَبِى نَضْرَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ الأَطْوَلِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِيَالاً فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَدَّيْتُ عَنْهُ إِلاَّ دِينَارَيْنِ ادَّعَتْهُمَا امْرأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالَ « فَأَعْطِهَا فَإِنَّهَُا مُحِقَّة"ٌ وجه الدلالة أن هذا الحديث يدل على جواز اعتماد القاضي في الحكم على مجرد علمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لها بالدينارين، ولم يطلب منها بينة على ذلك، بل جعل مستنده في الحكم: علمه بصدقها.

(7) قصة هند بنت عتبة زوجها:

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى ، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ « خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " 

وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لها أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها ويكفي ولدها، وقد اعتمد في حكمه على علمه بصحة ما ادعته، ولذا لم يسألها البينة على دعواها، ولم يحضر الزوج ويسأله عن الدعوى، وهذا ظاهر الدلالة على جواز قضاء القاضي بعلمه.

(8) حديث خزيمة بن ثابت:

"عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِىٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَشْىَ وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِىُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِىَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلاَ يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَهُ فَنَادَى الأَعْرَابِىُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ وَإِلاَّ بِعْتُهُ. فَقَامَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِىِّ فَقَالَ « أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ». فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ لاَ وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « بَلَى قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ». فَطَفِقَ الأَعْرَابِىُّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا. فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ. فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ « بِمَ تَشْهَدُ ». فَقَالَ بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ" 

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بعلمه، وإذا كان الحكم بالعلم للنفس جائزاً فإنه يجوز للغير من باب أولى لأن ذلك أبعد عن التهمة.

(9) ويستند أنصار هذا الاتجاه إلى القول بأن القاضي يحكم بالشاهدين وهذا حكم بغلبة الظن، وإذا جاز له الحكم بغلبة الظن فحكمه بما تحققه وقطع به أولى، وذلك لأن العلم أقوى دلالة من الظن المستفاد من شهادة الشهود أو الإقرار. كذلك فإن القاضي يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، وعلى هذا يجوز له الحكم بعلمه في ثبوت الحق وعلمه، فالتزكية حاصلة لحاكم بتوليته الحكم، فلا وجه للتهمة وسوء الظن به، ولذا انعقد الإجماع على جواز حكمه بعلمه في تعديل الشهود وتجريحهم فكذا هذا، إذ لا وجه للتفرقة، وقبول حكمه بمقتضى علمه في البعض، ورده في البعض الآخر من غير دليل يدل ذلك على تحكم ظاهر.



الاتجاه الثاني:

(يجوز أن يحكم القاضي بعلمه في حقوق العباد الخالصة أو المشتركة بين حقوق الله وحقوق العباد):



يرى أنصار هذا الرأي أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الآدميين الخالصة وفيما هو مشترك بين الله وبين العبد، سواء علم هذا زمان ولايته أو قبلها في البلد الذي ولي قضاءها أو في غيرها. أما إذا كان حقاً خالصاً لله تعالى كحد الزنا والشرب والسرقة وقطع الطريق فلا يجوز أن يقضي فيه بعلمه الشخصي. ويمثل هذا الاتجاه أبو يوسف ومحمد في رواية عنه وبعض الشافعية والشيعة الزيدية. قال الشوكاني عن رأي الشيعة الزيدية: لهم روايتان يقضي بعلمه والثانية لا يقضي بعلمه كما ذكر الشوكاني"قد حكى في البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله" 

يقول السرخسي: " وإذا رأى القاضي وهو في مجلس القضاء أو غيره رجلا يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن يقيم عليه الحد في القياس لأنه تيقن باكتسابه السبب الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده بمعاينة السبب فوق العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود، لأن ذلك محتمل الصدق والكذب. وفي الاستحسان لا يقيم عليه الحد" 

أدلة القائلين بهذا الرأي:

(1) ما أخرجه أبو حنيفة في مسنده: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فهذا الحديث تلقته الأمة بالقبول وأجمع على العمل به فقهاء الأمصار، وعلم القاضي لا يورث الاطمئنان عند الكافة خصوصاً فيما يعلق بحق الله الذي تطالب به الكافة ويورث شبهة عند الناس، ومن أجل ذلك لا يقضي بعلمه الشخصي.

(2) ما أخرجه مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الملاعنة: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا » 

وجه الدلالة من هذا الحديث أنه أفاد منع القاضي من القضاء بعلمه في الزنا، وعدوا هذا الحكم إلى سائر الحدود التي هي حق خالص لله بجامع أن كلا فيه حق لله تعالى، وحقوق الله مبنية على المساهمة، ولأن الحدود حقوق خالصة لله تعالى والقاضي خصم فيها إذ ليس من يطالب بها فتلحقه التهمة إذا استوفاها بعلمه الشخصي بخلاف حقوق الآدميين، فإن صاحب الحق يطالب بها، ومن ثم فالتهمة منتفية عن القاضي إذا حكم فيها بعلمه. 

(3) وما أخرجه البيهقي: عن أبي بكر : "لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُ أَنَا وَلَمْ أَدْعُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِى غَيْرِى" 

فمفهوم كلام أبي بكر أنه لا يقضي بعلمه في الحدود خاصة لأن قوله على حد يفهم منه أنه لو رآه على غير حد لحكم عليه بمقتضى علمه الشخصي.

(4) يحتج أصحاب هذا الاتجاه بأن الحدود حق خالص لله يستوفيها القاضي على سبيل النيابة: "ولأن الحدود التي هي من خالص حق الله تعالى يستوفيها الإمام على سبيل النيابة من غير أن يكون هناك خصم يطالب به من العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في الإقامة ربما يتهمه بعض الناس بالجور والإقامة بغير حق وهو مأمور بأن يصون نفسه عن ذلك وهذا بخلاف القصاص وحد القذف وغير ذلك من حقوق الناس لأن هناك خصم يطالب به من العباد وبوجوده تنتفي التهمة عن القاضي فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك" 

وقد احتجوا على جواز الحكم في حقوق الآدميين بالعلم الشخصي للقاضي بذات الأدلة التي احتج بها من رأى الجواز المطلق في الحدود وغيرها.



الاتجاه الثالث:

(لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه في الحدود الخالصة لله سواء قبل وبعد ولايته أو في زمن ولايته):



يرى أنصار هذا الرأي أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه في الحدود الخالصة لله سواء علم ذلك قبل الولاية أو بعدها في محل ولايته أو في غيرها: " فأما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعد الإقرار باطل وللقاضي أن يلزمه ذلك بإقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لأن معاينته السبب أقوى في إفادة العلم من إقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذي هو قاض فيه بعد ما قلد القضاء. فأما إذا كان رأى ذلك قبل أن يتقلد القضاء ثم استقضي فليس له أن يقضي بعلمه في ذلك عند أبي حنيفة" 

وخالفه أبو يوسف ومحمد إذا قالا:"له أن يقضي بعلمه في ذلك لأن علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقضى وقبله وهو أقوى من العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود فإن معاينة السبب تفيده علم اليقين وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلان يجوز له أن يقضي بعلم نفسه أولى" 

وعلى أية حال فالاتجاه الثالث هو اتجاه أبي حنيفة مستنداً في ذلك إلى نفس الأدلة التي احتج بها الاتجاه الأول، ووجه التفرقة عنده بين ما عليه بعد ولايته، وفي المصر الذي وكل إليه قضاءه، وبين ما علمه في غير ذلك أن علمه الحادث له في زمن القضاء علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء، فأشبه البينة القائمة فيه. والعلم الحاصل في غير زمن القضاء حاصل في وقت هو غير فيه بالقضاء، فلم يكن في معنى البينة، فلم يجز القضاء به.

الخلاصة: هاتان هما المدرستان اللتان تنازعتا الحكم في مسألة مدى جواز أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي فيما يعرض عليه من قضايا، ولكي تكتمل الصورة كلها بأبعادها ودقائقها ينبغي أن نعرض لما أجاب به أنصار كل مدرسة على أدلة الطرف الآخر، وذلك على النحو التالي:



(ا) مناقشة أدلة المدرسة الأولى:



أجيب على ما استدل به أنصار المدرسة الأولى على عدم جواز أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي: 

الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) 

قال المخالف: لا دلالة في هذه الآية على عدم جواز القضاء بالعلم الشخصي للقاضي، وذلك لأن الاقتصار على الشهود لا يستلزم عدم ثبوت الحد بغيرهم، فمن المسلم به أن المقذوف لو أقر بما نسب إليه لسقط الحد عن القاذف، وإن لم يأت بأربعة شهداء، مع أن ذلك لم يذكر في الآية الكريمة.

الرد على حديث الملاعنة:

وما أخرجه مسلم عن ابن عباس في قصة الملاعنة: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا » 

قال المخالف: واضح من سياق الحديث أنه لا يدل على عدم القضاء بالعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بزنا تلك المرأة. وإنما قامت لديه قرائن توحي بارتكابها لذلك، فترك رجمها راجع لعدم قيام دليل قاطع على صدور الزنا منها. والأمور التي تدل على زناها مجرد قرائن وهي غير صالحة لبناء الحكم عليها. ولو سلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في شأن الملاعنة فإنه لا يصلح للاحتجاج به على منع القضاء بالعلم لأنه عليه السلام إنما لم يقض بعلمه لكونه قد تم اللعان بينها وبين زوجها وهو وحده كاف لدرء الحد.

قال الشوكاني: " وظاهره أنه صلى الله عليه وسلم قد علم وقوع الزنى منها ولم يحكم بعلمه. ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمن المتقدمان، ويمكن أن يجاب عن الحديث؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن، وهو أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه" 

قال ابن حزم: : "وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها وهذا لا حجة لهم فيه لأن علم الحاكم أبين بينة وأعدلها" 

الرد على حديث أم سلمة:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا » 

قال المخالف: هذا الحديث لا تقوم به حجة لهم لأن التنصيص على السماع لا يغني كون غيره طريقاً للحكم، مع أنه يمكن أن يقال إن الاحتجاج بهذا الحديث للذين يجيزون القضاء بالعلم أظهر فإن العلم أقوى من السماع لأنه لا يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما يعلم.

الرد على الاستدلال بحديث (شاهداك أو يمينه):

حديث الأشعث بن قيس الكندي:"َانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى شَىْءٍ ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " 

قال المخالف: "وهذا قد خالفه المالكيون المحتجون به، فجعلوا له الحكم باليمين مع الشاهد، واليمين مع نكول خصمه، وليس هذا مذكورا في الخبر، وجعل له الحنفيون الحكم بالنكول وليس ذلك في الخبر، وأمروه بالحكم بعلمه في الأموال التي فيها جاء هذا الخبر، فقد خالفوه جهارا وأقحموا فيه ما ليس فيه" 

ويضيف ابن حزم: " وأما نحن فنقول أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينتك أو يمينه) ومن البينة التي لا بينة أبين منها صحة علم الحاكم بصحة حقه، فهو في جملة هذا الخبر" 

الرد على احتجاجهم بحديث عيسى بن مريم عليه السلام:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِى » 

أجاب المخالف: قال ابن حزم: " ليس يلزمنا شرع عيسى عليه السلام وقد يخرج هذا الخبر على أنه رآه يسرق أي يأخذ الشيء مختفيا بأخذه فلما قرره حلف وقد يكون صادقا لأنه أخذ ماله من ظالم له" 

الرد على قصة أبي جهم بن حذافة:

قال المخالف: أما قصة أبي جهم فليست من القضاء في شئ، وإنما هي من باب السياسة الشرعية وتأليف القلوب، وتقوية الإيمان في النفوس، فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب لأصحابه مثلاً في التسامح والعفو، ولأنهم قوم جاهلون، فلم يؤاخذهم بما صدر منهم، ولو كان ذلك من القضاء لأحضر النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهم ليدافع عن نفسه، وليجعل القضية تأخذ مجراها كسائر القضايا.

أما الآثار المروية عن أبي بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف: 

قال المخالف: فلا يصح الاحتجاج بها إذ هي معارضة لما روي عنه في تجويز القضاء بالعلم، وقول الصحابة لا يعتبر حجة إذا عارضه قول صحابي آخر، فكيف وقد عارضه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن حزم: فوجدنا من منع من أن يحكم الحاكم بعلمه يقول هذا قول أبي بكر وعمر وعبد الرحمن وابن عباس ومعاوية ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة فقلنا هم مخالفون لكم في هذه القصة لأنه إنما روى أن أبا بكر قال أنه لا يثيره حتى يكون معه شاهد آخر 

وهو قول عمر وعبد الرحمن أن شهادته شهادة رجل من المسلمين فهذا يوافق من رأى أن يحكم في الزنى بثلاثة هو رابعهم وبواحد مع نفسه في سائر الحقوق، وأيضا فلا حاجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم" 

وأجيب على استدلالهم بأن تجويز القضاء بالعلم يفضي إلى أن يستغل القضاة ذلك لتحقيق أغراضهم الشخصية بأنه قول يصعب التسليم به لأن من شروط من يلي منصب القضاء أنه عدل، والعدول لا تتطرق إليه التهمة، وحتى لو سلم بذلك فإن التهمة متصورة في شهادة الشهود، ومع ذلك لم تكن ماتعن من قبول شهادتهم.



(ب) مناقشة أدلة المدرسة الثانية: 



أجيب على ما استدل به أنصار المدرسة الثانية على جواز أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي، أن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) 

أجاب المخالف: لا دلالة فيه على جواز القضاء بالعلم وذلك لأن القاضي إنما لم يحكم للمظلوم لأنه لم يأت بحجة يستند القاضي عليها في حكمه. فالحاكم معذور إذ لا حجة معه يوصل بها صاحب الحق لحقه. وفي هذه الحالة لا يكون ممتنعاً من القيام بالقسط.

أما استدلالهم بآيتي الزنا والسرقة: (2) كما احتجوا بقوله تعالى:

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 

أجاب المخالف: إن آيتي الزنا والسرقة إنما نزلتا لبيان العقوبة الواجبة على من ارتكب هذين الفعلين لا لبيان الطرق التي يحكم بها الحاكم.

وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري: 

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » 

أجاب المخالف: هذا لا يدل على جواز الحكم بالعلم ذلك لأنه أمر بتغيير ما يعلم الناس أنه منكر بحديث لا يتطرق إلى المغير تهمة في ذلك. أما أن يعمد القاضي إلى رجل مستور لم تقم أدلة على ارتكابه منكراً فيرجحه، ويقول رأيته يزني، أو يقطع يده، ويقول رايته يسرق فإن ذلك يؤدي إلى تطرق التهمة إليه والتشكك في الدوافع التي حدت به إلى ذلك، وإن فتح هذا الباب يفضي إلى أن يجد كل قاض السبيل مهيئاً لقتل عدوه، أو التشهير به خاصة إذا كانت العداوة خفية، لا يتمكن المقضي عليه من إثباتها فلم يجز بهذا الحديث على إطلاقه. وفضلاً عن ذلك فإن تغيير المنكر ليس من القضاء وإنما هو من باب الحسبة.

وأما استشهادهم بحديث: أبي هريرة قال: "جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فقال للآخر: احلف، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو عندك، ادفع إليه حقه، ثم قال شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك" 

أجاب المخالف:

هذا حديث ضعيف فقد: "أعله ابن حزم بأبي يحيى وهو مصدع المعرقب، كذا قال ابن عساكر، وتعقبه المزي بأنه وهم بل اسمه زياد كذا اسمه عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث. وأعله أبو حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب عن البختري بن عبيد. ثم إن النبي لم يقض بعلمه وإنما بالوحي يدل على ذلك ما ذكره الشوكاني في بعض الروايات: وفي رواية لأحمد فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله" 

وأما الإستدلال بحديث (بينتك أو يمينه):

أجاب المخالف: "فإن البينة اسم لما يبين الحق بحيث يظهر المحق من المبطل، ويبين ذلك للناس، وعلم الحاكم ليس ببينة" 

كما أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون حجة على محل النزاع، لأن بعض رواياته لم يرد فيها لفظ بينة، فقد ورد في مسند أحمد: "عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَرْضٍ بِالْيَمَنِ فَقَالَ الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى اغْتَصَبَهَا هَذَا وَأَبُوهُ. فَقَالَ الْكِنْدِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِى. فَقَالَ الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحْلِفْهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِى وَأَرْضُ وَالِدِى وَالَّذِى اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ. فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِىُّ لِلْيَمِينِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُ لاَ يَقْتَطِعُ عَبْدٌ - أَوْ رَجُلٌ - بِيَمِينِهِ مَالاً إِلاَّ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ أَجْذَمُ ». فَقَالَ الْكِنْدِىُّ هِىَ أَرْضُهُ وَأَرْضُ وَالِدِهِ" 

أما استدلالهم بحديث سعد بن الأطول: عَنْ أَبِى نَضْرَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ الأَطْوَلِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِيَالاً فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَدَّيْتُ عَنْهُ إِلاَّ دِينَارَيْنِ ادَّعَتْهُمَا امْرأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالَ « فَأَعْطِهَا فَإِنَّهَُا مُحِقَّة"ٌ أجاب المخالف: لا وجه للاحتجاج به لأنه ليس في محل النزاع، إذ المرأة لم تطلب منه أن يحكم لها بالدينارين، وإنما استفتى الرجل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أودعته فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائها احتياطاً وإبراء لذمة الميت. فهذا الحديث من قبيل الفتيا وليس من باب القضاء بالعلم. ومع التسليم بأنه عليه السلام حكم لها بعلمه فإنه لا يصح الاستدلال به، لأن المنع من القضاء بالعلم إنما هو لأجل التهمة وهي منقبة في حقه صلى الله عليه وسلم. 

قال في الطرق الحكمية: "فإن المنع من حكم الحاكم بعلمه إنما هو لأجل التهمة وهي معلومة الانتفاء من سيد الحكام صلى الله عليه وسلم" 

أما حديث هند بت عتبة: "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى ، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ « خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " 

أجاب المخالف: 

قال ابن القيم: "وهذا الاستدلال ضعيف جداً. فإن هذا إنما هو فتيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حكم. ولهذا لم يحضر الزوج، ولم يكن غائباً عن البلد، والحكم على الغائب عن مجلس الحكم الحاضر في البلد غير ممتنع وهو يقدر على الحضور ولم يوكل وكيلاً، لا يجوز اتفاقاً. وأيضاً فإنها لم تسأله الحكم، وإنما سألته (هل يجوز لها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي بنيها) وهذا استفتاء محض، فالاستدلال به على الحكم سهو" 

وقال الشوكاني: " ومن جملة ما استدل به البخاري على الجواز حديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها. قال ابن بطال: احتج من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بهذا الحديث لأنه إنما قضى لها ولولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان، ولم يلتمس على ذلك بينة. وتعقبه ابن المنير بأنه لا دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي، انتهى. فإن قيل إن محل الدليل إنما هو عمله بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب. فيجاب بأن الذي يحتاج إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا الإفتاء، فإنه يصح للمجهول، فإذا ثبت أن ذلك من قبيل الإفتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة. وقد تعقب الحافظ (أي ابن حجر) كلام ابن المنير فقال: وما ادعى نفيه بعيد، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ، واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون سواه، فلا بد من سبق علم. ويجاب عن هذا بأن الأمر لا يستلزم الحكم؛ لأن المفتي يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم في شيء" 

وأما حديث أبي سعيد الخدري:

"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » 

أجاب المخالف: فليس في هذا الحديث ما يدل صراحة أو ضمناً على تجويز القضاء بالعلم، وغاية ما تضمنه الحث على الجهر بالحق دون اعتبار لأحد هذا إنما يتصور فيما يعلم الناس أنه حق، ولكن لا يجرءون على التصريح به خوفاً مما قد يلحقهم من وراء ذلك. وهذا بخلاف ما ينفرد القاضي بعلمه، فإنه لا يدري أحكم بحق أم بباطل فيكون عرضة للاتهام.

قال ابن القيم: 

"هو مأمور بتغيير ما يعلم الناس أنه منكر، بحيث لا يتطرق إليه تهمة في تغييره. وأما إذا عمد إلى رجل مع زوجته وأمته قط، ففرق بينهما، وزعم أنه طلق وأعتق. فإنه ينسب ظاهراً إلى تغيير المعروف بالمنكر، وتطرق الناس إلى اتهامه والوقوع في عرضه. وهل يسوغ للحاكم أن يأتي إلى رجل مستور بين الناس، غير مشهور بفاحشة، وليس عليه شاهد واحد بها، فيرجمه، ويقول: رأيته يزني؟ أو يقتله ويقول: سمعته يسب؟ أو يفرق بين الزوجين، ويقول: سمعته يطلق؟ وهل هذا إلا محض التهمة؟ ولو فتح هذا الباب ـ ولا سيما لقضاة الزمان ـ (أي زمان ابن القيم) لوجد كل قاض له عدوٌّ السبيلَ إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، ولا سيما إذا كانت العداوة خفية، لا يمكن عدوه إثباتها، وحتى لو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه، لوجب منع قضاة الزمان من ذلك. وهذا إذا قيل في شريح، وكعب بن سوار، وإياس بن معاوية، والحسن البصري، وعمران الطلحي، وحفص بن غياث، وأضرابهم: كان فيه ما فيه" 

وأما حديث خزيمة بن ثابت:

"فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ « بِمَ تَشْهَدُ ». فَقَالَ بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ" 

قال المخالف: لا وجه للاستدلال به لأنه لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لنفسه، إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه أخذ الفرس قهراً من الأعرابي.

أما القول: إن القضاء بالعلم أولى من القضاء بالظن المستفاد عن الشهادة: 

قال المخالف: أصل النزاع في تصديق القاضي في ادعائه العلم بالواقعة المعروفة أمامه. واحتمال صدقه في ذلك أمر مظنون، والظن في صدق الشهود أقوى من الظن في صدق القاضي لزيادة عددهم. كذلك فإنهم في هذا القول قد بنوا على استدلالهم على أن حكم القاضي المنسوب إلى علمه، لا بد وأن يكون موافقاً لما تحققه وقطع به وهذا غير مسلم، لأن الحكم المنسوب إلى علم القاضي كما يحتمل أن يكون موافقاً لما تحققه وقطع به يحتمل أيضاً أن يكون بخلاف ذلك لمؤثر من المؤثرات. وعلى هذا يكون ما افترضوه من أن حكم القاضي المنسوب إلى علمه يكون موافقاً لما تحققه وقطع به ترجيح بلا مرجح. 

أما قبول اعتماد القاضي على علمه في الجرح والتعديل فإن ذلك ليس بحكم كما ذهب إليه كثير من العلماء، إذ يجوز لغيره العمل بخلافه ولو كان حكماً لما ساغ ذلك. لأن نقض الحكم من غير سبب شرعي لا يصح وإذا لم يكون ذلك حكماً لم يجز القياس عليه.

وأما الرد علي من يفرق بين القضاء في الحدود والقضاء في غيرها بحيث لا يجيز للقاضي أن يحكم بعلمه في الحدود ويجيز له أن يحكم بعلمه في حقوق العباد الخالصة أو المشتركة؛ فإن هذه التفرقة غير مسلم بها لأن التهمة إذا كانت متصورة في الحدود فهي متصورة أيضاً فيما عداها إذ من الجائز أن يتواطأ القاضي مع المدعي أو مع خصم المتهم.



(ج) ملخص لآراء الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه من عدمه:



من خلال استعراضنا للآراء المختلفة لفقهاء الإسلام حول قضاء القاضي بعلمه نختصرها على النحو التالي:

الإمامية: "الإمام عليه السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وحقوق الله سبحانه. أما غير الإمام من القضاة فله الحكم في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه، على قولين أصحهما القضاء. ويجوز أن يحكم في ذلك كله، من غير حضور شاهد يشهد الحكم." 

الشافعية: قالوا يقضي بعلمه فيما علمه في زمن ولايته ومكانها أما ما علمه في غير ولايته ومكانها لا يقضي بعلمه.

الشيعة الزيدية: لهم روايتان يقضي بعلمه والثانية لا يقضي بعلمه كما ذكر الشوكاني"قد حكى في البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله" 

المالكية: لا يقضي القاضي بعلمه سواء علمه قبل التولية أو بعدها في مجلس القضاء أو غيره، قبل الشروع في المحاكمة أو بعد الشروع فهو أشد المذاهب في ذلك. وخالفه صاحباه: ابن سحنون وعبد الملك فقالا: يحكم بعلمه فيما علمه بعد الشروع في المحاكمة.

الحنابلة: أما مذهب أحمد ففيه ثلاث روايات: "أحدها وهي الرواية المشهورة عنه المتصورة عند أصحابه أنه لا يحكم بعلمه لأجل التهمة. (الثانية) يجوز له ذلك مطلقاً في الحدود وغيرها. (والثالثة) يجوز إلا في الحدود" 

الحنفية: إذا علم الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومكانها جاز له أن يقضي به. أما ما علمه قبل ولا يته أو غير مكان ولا يته، فلا يقضي به عند أبي حنيفة. وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فقالا: يقضي به كما في حال ولايته. أما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها، لأنه حق لله تعالى إلا في حد القذف فإنه يقضي بعلمه لما فيه من حق العباد.

الظاهرية: يقضي القاضي بعلمه في الدماء والأموال والقصاص والحدود سواء قبل ولايته أو بعد ولايته.



أما بالنسبة للقوانين الوضعية الحديثة:



فقد: "حكم في إنجلترا أنه إذا استبعدنا ما يأخذ به القاضي علماً قضائياً، فإنه لا يجوز للقاضي أن يقضي في النزاع المعروض بعلمه الخاص أو بناء على معلومات لا تتوافر للطرفين. والقاعدة التي تبدو أنها تقوم على أساس أنه إن كان القاضي قد توافر له علم خاص أو معلومات معينة فيما يتعلق بالنزاع المطروح أمامه، فيجب عليه أن يقدم هو نفسه الدليل كشاهد أمام المحكمة، قد اتبعها القضاء السوداني" 



الرأي المختار:



أولاً: بعد عرض كل الآراء السابقة فإنني أرى رجحان الرأي القائل بعدم جواز أن يحكم القاضي استناداً إلى علمه الشخصي بالوقائع المعروضة عليه سواء في الحدود أو الحقوق المشتركة كالقصاص وخاصة في إثبات جريمة القتل العمد للأدلة التي استند إليها القائلون بهذا الرأي. 

ثانياً: قضاء القاضي بعلمه الشخصي وإن كان مستساغاً في بعض الأزمنة خاصة في صدر الإسلام فإن تجويزه في أيامنا أمر يصعب تصوره لأن الإيمان قد ضعف، ولأن كثيراً من الناس يضعون مصالحهم الشخصية في المقام الأول دون إقامة وزن لموقف الشرع وتعليماته حتى لو وجد بعض القضاة الأمناء ذوي السمعة الطيبة، لكن ماذا عساناً أن نفعل في قضاة الغد ونحن لا نعلم عنهم شيئاً، والاحتياط لدماء الناس وأعراضهم وأموالهم أمر في غاية الأهمية لا يقبل التفريط أو التساهل. وما أحسن قول ابن القيم في هذه القضية: "ولقد كان سيد الحكام صلوات الله عليه وسلامه يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق ذلك، ولا يحكم فيهم بعلمه، مع براءته عند الله وملائكته، وعباده المؤمنين من كل تهمة، لئلا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه. ولما رآه بعض أصحابه مع زوجته صفية بنت حيي قال: (رويدكما إنها صفية بنت حيي) لئلا يقع في نفوسهما تهمة له. ومن تدبر الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح وسد الذرائع تبين له الصواب في هذه المسألة" 

ثالثا: كما أن القضاة بشر يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم أو كما قال الشافعي: (لولا قضاة السوء لقلت إن القاضي يحكم بعلمه). كما أن كثيراً من المحكوم عليهم لا تسلم بسهولة بتلك الأحكام الصادرة عليهم سيحاولون الطعن فيها بمختلف الطرق على أسباب ظاهرة، فكيف يكون الوضع إذا أعطى القضاة الحق بالاعتماد على معلوماتهم الشخصية في الوقائع المنظورة أمامهم. أو ليس في هذا المنع حماية للقاضي نفسه ولمكانة القضاء من أن تزلزل في نفوس الناس. كذلك فإن صفة القاضي بالنسبة لمعلوماته الشخصية أنه (شاهد) وثمة تناقض بين صفتي القاضي والشاهد. 

رابعاً: فإن المعلومات الشخصية للقاضي لا تعرض في جلسة المحكمة ولا تتاح فرصة مناقشتها وتقويمها ومن ثم الاعتماد عليها مناقضاً لمبدأ الشفوية والمواجهة الذي يسود مرحلة المحاكم. كما أرى أننا لو أخذنا برأي من يرى جواز أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي لكان هذا أشبه بما يسمى سرية الأدلة المعمول بها الآن في أمريكا وبريطانيا في قوانين مكافحة الإرهاب مع الفارق أن هذه الأدلة السرية معلومات استخباراتية تعرض على القاضي ولا يطلع عليها المتهم ولا حتى محاميه!! وهذا قريب الشبه من قضاء القاضي بعلمه لأنه سيحكم بدون إطلاع المتهم، ولا موكله على الأدلة، وسيكتفي بالنطق بالحكم فقط !! مما يضر بمركز المتهم وحقه في تفنيد الأدلة التي توجه ضده.

خامساً: وأخيراً درءاً للشبهات وسداً للذرائع فأرى ألا يقضي القاضي بعلمه الشخصي وله أن يتنحى عن نظر القضية ويحيلها لقاض آخر ثم يتقدم للشهادة كشاهد وليس كقاض كما هو معمول به في القوانين الوضعية الحديثة.